طريق البازلت القديم – طريق الخلود – (تراث ثقافي)
في عمق الصحراء الغربية لمصر، وبين التلال الصامتة والرمال الممتدة، يكشف لنا الزمن عن طريقٍ فريد. طريق نُحت في الذاكرة، وشُيّد بالأحجار، وسار عليه المصريون القدماء في رحلتهم نحو الخلود. إنه “طريق البازلت القديم” – ممرٌ جيولوجي وإنساني، يربط بين قمم الجبال وموانئ الحضارة.
تشكل البازلت، هذا الصخر البركاني الأسود، قبل نحو ثلاثين مليون عام، خلال العصر الأوليجوسيني، إثر انفجارات بركانية عنيفة صاحبت بدايات انشقاق البحر الأحمر. وكان جبل قطراني، المهيب بلونه الداكن، أحد أبرز مصادر هذا الحجر الفريد في شمال مصر. وعلى هذه الأرض، خطط المصريون القدماء طريقاً هندسياً محكماً، مهمته نقل كتل البازلت الضخمة من قمم الجبل، عبر منحدر مدروس بعناية، وصولاً إلى منطقة قصر الصاغة حيث الميناء القديم على ضفاف بحيرة موريس – بحيرة قارون حالياً.
كانت هذه الكتل تُدحرج على جذوع الأشجار، وكأنها عجلات طبيعية، مستفيدين من الانحدار الطبيعي بين قمة جبل قطراني على ارتفاع 353 متراً فوق سطح البحر، ومنطقة قصر الصاغة على ارتفاع 10 أمتار فقط. وهناك، تبدأ رحلتها المائية، عبر البحيرة ثم قناة تربطها بالنيل، وصولاً إلى أهرامات الجيزة وسقارة، لتُستخدم في تبليط أرضيات المقابر والمعابد، لما اعتقد المصريون القدماء أنه يوفر الحماية لأجساد الموتى في الحياة الأخرى.
يمتد الطريق لمسافة تزيد عن 11 كيلومتراً، بعرض ثابت يبلغ نحو مترين وعشرة سنتيمترات، وهو ما يطابق عرض قوالب البازلت المقطوعة من المحاجر. وقد بُنيت خمسة محاجر رئيسية على قمة الجبل، لكلٍ منها طريق خاص، تتقاطع جميعها عند نقطة محورية قرب منطقة ودان الفرس. ورغم مرور آلاف السنين، لا تزال بعض أجزاء الطريق صامدة، خاصة تلك المشيدة بالحجر الجيري والخشب المتحجر، بينما تآكلت أجزاء أخرى بفعل الرياح والمطر، كاشفة عن الطبقات الرسوبية التي حماها البازلت فوقها، ليبدو الطريق اليوم كأنه يرتفع عن محيطه الطبيعي بنصف متر تقريباً.
طريق البازلت ليس مجرد أثر، بل قصة مكتوبة بالحجر… تحكي عن ذكاء المصريين القدماء، وإيمانهم، وحنكتهم في تطويع الطبيعة لخدمة عقيدتهم وميراثهم الحضاري. طريقٌ صامت… لكنه يبوح بكل شيء.